سورة النساء - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)}
{يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهًا} لما نهى الله سبحانه فيما تقدم عن عادات أهل الجاهلية في أمر اليتامى والأموال عقبه بالنهي عن الاستنان بنوع من سننهم في النساء أنفسهن أو أموالهن؛ فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس قال: كان الرجل إذا مات وترك جارية ألقى عليها حميمه ثوبه فمنعها من الناس فإن كانت جميلة تزوجها وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها، وفي رواية البخاري وأبي داود كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها وإن شاءوا زوجوها وإن شاءوا لم يزوجوها فهم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية في ذلك، وأخرج ابن المنذر عن عكرمة قال: نزلت هذه الآية في كبيشة ابنة معن بن عاصم من الأوس كانت عند أبي قيس بن الأسلت فتوفي عنها فجنح عليها ابنه فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: لا أنا ورثت زوجي ولا أنا تركت فأنكح فنزلت، وروي مثله عن أبي جعفر وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال: كان أهل يثرب إذا مات الرجل منهم في الجاهلية ورث امرأته من يرث ماله فكان يعضلها حتى يتزوجها أو يزوجها من أراد فنهى الله تعالى المؤمنين عن ذلك.
وروي عن الزهري أنها نزلت في الرجل يحبس المرأة عنده لا حاجة له بها وينتظر موتها حتى يرثها فالنساء إما مفعول ثان لترثوا على أن يكنّ هنّ الموروثات، وكرهًا مصدر منصوب على أنه حال من النساء، وقيل: من ضمير {تَرِثُواْ} والمعنى لا يحل لكم أن تأخذوا نساء موتاكم بطريق الإرث على زعمكم كما حل لكم أخذ الأموال وهنّ كارهات لذلك أو مكرهات عليه، أو أنتم مكروهون لهنّ، وإما مفعول أول له، والمعنى: لا يحل لكم أن تأخذوا من النساء المال بطريق الإرث كرهًا والمراد من ذلك أمر الزوج أن يطلق من كره صحبتها ولا يمسكها كرهًا حتى تموت فيرث منها مالها، وقرأ حمزة والكسائي {كَرْهًا} بالضم في مواضعه، ووافقهما عاصم وابن عامر ويعقوب في الأحقاف، وقرأ الباقون بالفتح في جميع ذلك وهما عنى كالضعف والضعف، وقيل: الكره بالضم الإكراه وبالفتح الكراهية، وقرئ لا تحل بالتاء الفوقانية لأن أن ترثوا عنى الوراثة كما قرئ {لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ} [الأنعام: 23] لأنه عنى المقالة، وهذا عكس تذكير المصدر المؤنث لتأويله بأن والفعل، فكل منهما جار في اللسان الفصيح.
{وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ} أصل العضل التضييق والحبس، ومنه عضلت المرأة بولدها عسر عليها كأعضلت فهي معضل ومعضل، ويقال: عضل المرأة يعضلها مثلثة عضلًا وعضلًا وعضلانًا بكسرهما، وعضلها منعها الزوج ظلمًا، وعضلت الأرض بأهلها غصت قال أوس:
ترى الأرض منا بالفضاء مريضة *** معضلة منا بجيش عرمرم
و {لا} إما ناهية على ما قيل والفعل مجزوم بها، والجملة مستأنفة كما قال أبو البقاء أو معطوفة على الجملة التي قبلها بناءًا على جواز عطف جملة النهي على جملة خبرية كما نسب إلى سيبويه، أو بناءًا على أن الجملة الأولى في معنى النهي إذ معناها لا ترثوا النساء كرهًا فإنه غير حلال لكم، وإما نافية مزيدة لتأكيد النفي، والفعل منصوب بالعطف على ترثوا كأنه قيل: لا يحل ميراث النساء {كرهًا} ولا عضلهن، ويؤيد ذلك قراءة ابن مسعود، {ولا أن تعضلوهن}، وأما جعل لا نافية غير مزيدة والفعل معطوف على المنصوب قبله فقد ردّه بعضهم بأنه إذا عطف فعل منفي بلا على مثبت وكانا منصوبين فالقاعدة أن الناصب يقدر بعد حرف العطف لا بعد لا ولو قدرته هنا بعد العاطف على ذلك التقدير فسد المعنى كما لا يخفى، والخطاب في المتعاطفين إما للورثة غير الأزواج فقد كانوا يمنعون المرأة المتوفى عنها زوجها من التزوج لتفتدي بما ورثت من زوجها، أو تعطيهم صداقًا أخذته كما كانوا يرثونهن كرهًا، والمراد بما آتيتموهن على هذا ما أتاه جنسكم وإلا لم يلتئم الكلام لأن الورثة ما آتوهن شيئًا، وإما للأزواج فإنهم كما كانوا يفعلون ما تقدم كانوا يمسكون النساء من غير حاجة لهم إليهن فيضاروهن ويضيقوا عليهن ليذهبوا ببعض ما آتوهن بأن يختلعن هورهن، وإلى هذا ذهب الكثير من المفسرين وهو المروي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه والالتئام عليه ظاهر، وجوز أن يكون الخطاب الأول للورثة، وهذا الخطاب للأزواج، والكلام قد تم بقوله سبحانه: {كَرْهًا} فلا يرد عليه بعد تسليم القاعدة أنه لا يخاطب في كلام واحد اثنان من غير نداء، فلا يقال: قم واقعد خطابًا لزيد. وعمرو، بل يقال: قم يا زيد، واقعد يا عمرو، وقيل: هذا خطاب للأزواج ولكن بعد مفارقتهم منكوحاتهم، فقد أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: كانت قريش كة ينكح الرجل منهم المرأة الشريفة فلعلها ما توافقه فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه فيأتي بالشهود فيكتب ذلك عليها فإذا خطبها خاطب فإن أعطته وأرضته أذن لها وإلا عضلها. والمراد من قوله سبحانه: {لِتَذْهَبُواْ} إلخ أن يدفعن إليكم بعض ما آتيتموهن وتأخذوه منهن، وإنما لم يتعرض لفعلهن لكونه لصدوره عن اضطرار منهن نزلة العدم، وعبر عن ذلك بالذهاب به لا بالأخذ، والإذهاب للمبالغة في تقبيحه ببيان تضمنه لأمرين كل منهما محظور شنيع الأخذ والإذهاب لأنه عبارة عن الذهاب مصطحبًا به؛ وذكر البعض ليعلم منه أن الذهاب بالكل أشنع شنيع.
{إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بفاحشة مُّبَيّنَةٍ} على صيغة الفاعل من بين اللازم عنى تبين أو المتعدي، والمفعول محذوف أي مبينة حال صاحبها. وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم {مُّبَيّنَةٍ} على صيغة المفعول، وعن ابن عباس أنه قرأ {مُّبَيّنَةٍ} على صيغة الفاعل من أبان اللازم عنى تبين أو المتعدي، والمراد بالفاحشة هنا النشوز وسوء الخلق قاله قتادة والضحاك وابن عباس وآخرون ويؤيده قراءة أبيّ إلا أن يفحشن عليكم، وفي الدر المنثور نسبة هذه القراءة لكن بدون عليكم إلى أبيّ وابن مسعود، وأخرج ابن جرير عن الحسن أن المراد بها الزنا. وحكي ذلك عن أبي قلابة وابن سيرين، والاستثناء قيل: منقطع، وقيل: متصل وهو من ظرف زمان عام أي لا تعضلوهن في وقت من الأوقات إلا وقت إيتائهن الخ، أو من حال عامة أي في حال من الأحوال إلا في هذه الحال، أو من علة عامة أي لا تعضلوهن لعلة من العلل إلا لإيتائهن ولا يأبى هذا ذكر العلة المخصوصة لجواز أن يكون المراد العموم أي للذهاب وغيره، وذكر فرد منه لنكتة أو لأن العلة المذكورة غائية والعامة المقدرة باعثة على الفعل متقدمة عليه في الوجود.
وفي الآية إباحة الخلع عند النشوز لقيام العذر بوجود السبب من جهتهن. وحكي عن الأصم أن إباحة أخذ المال منهن كان قبل الحدود عقوبة لهن. وروي مثل ذلك عن عطاء، فقد أخرج عبد الرزاق وغيره عنه كان الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة أخذ ما ساق إليها وأخرجها فنسخ ذلك الحدود، وذهب أبو علي الجبائي وأبو مسلم أن هذا متعلق بالعضل عنى الحبس والإمساك، ولا تعرض له بأخذ المال ففيه إباحة الحبس لهن إذا أتين بفاحشة وهي الزنا عند الأول والسحاق عند الثاني، فالآية على نحو ما تقدم من قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى البيوت} [النساء: 15].
{وَعَاشِرُوهُنَّ} أي خالقوهن {بالمعروف} وهو ما لا ينكره الشرع والمروءة، والمراد هاهنا النصفة في القسم والنفقة، والإجمال في القول والفعل. وقيل: المعروف أن لا يضربها ولا يسىء الكلام معها ويكون منبسط الوجه لها، وقيل: هو أن يتصنع لها كما تتصنع له، واستدل بعمومه من أوجب لهن الخدمة إذا كنّ ممن لا يخدمن أنفسهن، والخطاب للذين يسيئون العشرة مع أزواجهم، وجعله بعضهم مرتبطًا بما سبق أول السورة من قوله سبحانه: {وَءاتُواْ النساء صدقاتهن نِحْلَةً} [النساء: 4] وفيه بعد.
{فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ} أي كرهتم صحبتهن وإمساكهن قتضى الطبيعة من غير أن يكون من قبلهن ما يوجب ذلك {فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا} كالصحبة والإمساك.
{وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} كالولد أو الألفة التي تقع بعد الكراهة، وبذلك قال ابن عباس ومجاهد، وهذه الجملة علة للجزاء؛ وقد أقيمت مقامه إيذانًا بقوة استلزامها إياه فإن عسى لكونها لإنشاء الترجي لا تصلح للجوابية وهي تامة رافعة لما بعدها مستغنية عن الخبر، والمعنى فإن كرهتموهن فاصبروا عليهن، ولا تفارقوهن لكرهة الأنفس وحدها، فلعل {لكم} فيما تكرهونه {خيرًا كثيرًا} فإن النفس را تكره ما يحمد وتحب ما هو بخلافه، فليكن مطمح النظر ما فيه خير وصلاح، دون ما تهوى الأنفس، ونكر شيئًا وخيرًا ووصفه بما وصفه مبالغة في الحمل على ترك المفارقة وتعميمًا للإرشاد، ولذا استدل بالآية على أن الطلاق مكروه، وقرئ {وَيَجْعَلَ} بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، والجملة حال أي وهو أي ذلك الشيء يجعل الله فيه خيرًا كثيرًا، وقيل: تقديره والله يجعل الله بوضع المظهر موضع المضمر، فالواو حينئذٍ حالية. وفي دخولها على المضارع ثلاثة مذاهب: الأول: منع دخولها عليه إلا بتقدير مبتدأ، والثاني: جوازه مطلقًا. والثالث: التفصيل بأنه إن تضمن نكتة كدفع إيهام الوصفية حسن وإلا فلا، ولا يخفى أن تقدير المبتدأ هنا خلاف الظاهر.


{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20)}
{وَإِنْ أَرَدْتُّمُ} أيها الأزواج {استبدال زَوْجٍ} إقامة امرأة ترغبون بها {مَّكَانَ زَوْجٍ} أي امرأة ترغبون عنها بأن تطلقوها {وَءاتَيْتُمْ} أي أعطى أحدكم {إِحْدَاهُنَّ} أي إحدى الزوجات، فإن المراد من الزوج هو الجنس الصادق مع المتعدد المناسب لخطاب الجمع، والمراد من الإيتاء كما قال الكرخي: الالتزام والضمان كما في قوله تعالى: {إذا سلمتم ما أتيتم} [البقرة: 233] أي ما التزمتم وضمنتم، ومفهوم الشرط غير مراد على ما نص عليه بعض المحققين، وإنما ذكر لأن تلك الحالة قد يتوهم فيها الأخذ فنبهوا على حكم ذلك، والجملة حالية بتقدير قد لا معطوفة على الشرط أي وقد آتيتم التي تريدون أن تطلقوها وتجعلوا مكانها غيرها {قِنْطَارًا} أي مالًا كثيرًا، وقد تقدمت الأقوال فيه {فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ} أي من القنطار المؤتى {شَيْئًا} يسيرًا أي فضلًا عن الكثير.
{أَتَأْخُذُونَهُ} أي الشيء {بهتانا وَإِثْمًا مُّبِينًا} استئناف مسوق لتقرير النهي والاستفهام للإنكار والتوبيخ، والمصدران منصوبان على الحالية بتأويل الوصف أي أتأخذونه باهتين وآثمين، ويحتمل أن يكونا منصوبين على العلة ولا فرق في هذا الباب بين أن تكون علة غائية وأن تكون علة باعثة وما نحن فيه من الثاني نحو قعدت عن الحرب جبنًا لأن الأخذ بسبب بهتانهم واقترافهم المآثم فقد قيل: كان الرجل منهم إذا أراد جديدة بهت التي تحته بفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزوج الجديدة فنهوا عن ذلك، والبهتان الكذب الذي يبهت المكذوب عليه، وقال الزجاج: الباطل الذي يتحير من بطلانه، وفسر هنا بالظلم، وعن مجاهد أنه الإثم فعطف الإثم عليه للتفسير كما في قوله:
وألفى قولها كذبًا ومينًا ***
وقيل: المراد به هنا إنكار التمليك والمبين البين الظاهر.


{وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)}
{وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ} إنكار بعد إنكار، وقد بولغ فيه على ما تقدم في {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} [البقرة: 28]، وقيل: تعجيب منه سبحانه وتعالى أي إن أخذكم له لعجيب {وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} كناية عن الجماع على ما روي عن ابن عباس ومجاهد والسدي. وقيل: المراد به الخلوة الصحيحة وإن لم يجامع واختاره الفراء وبه قال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وهو أحد قولين للإمامية، وفي «تفسير الكلبي» عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الإفضاء الحصول معها في لحاف واحد جامعها أو لم يجامعها، ورجح القول الأول بأن الكلام كناية بلا شبهة، والعرب إنما تستعملها فيما يستحى من ذكره كالجماع، والخلوة لا يستحى من ذكرها فلا تحتاج إلى الكناية، وأيضًا في تعدية الإفضاء بإلى ما يدل على معنى الوصول والاتصال، وذلك أنسب بالجماع، ومن ذهب إلى الثاني قال: إنما سميت الخلوة إفضاءًا لوصول الرجل بها إلى مكان الوطء ولا يسلم أن الخلوة لا يستحى من ذكرها، والجملة حال من فاعل {تَأْخُذُونَهُ} مفيدة لتأكيد النكير وتقرير الاستبعاد أي على أي حال أو في أي حال تأخذونه، والحال أنه قد وقع منكم ما وقع {و} قد {وَأَخَذْنَ مِنكُم ميثاقا} أي عهدًا {غَلِيظًا} أي شديدًا قال قتادة: هو ما أخذ الله تعالى للنساء على الرجال {فَإِمْسَاكٌ عْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان} [البقرة: 229] ثم قال: وقد كان ذلك يؤخذ عند عقد النكاح فيقال: الله عليك لتمسكن عروف أو لتسرحن بإحسان، وروي ذلك عن الضحاك ويحيى بن أبي كثير وكثير، وعن مجاهد الميثاق الغليظ كلمة النكاح التي استحل بها فروجهن.
واستدل بالآية من منع الخلع مطلقًا وقال: إنها ناسخة لآية البقرة، وقال آخر: إنها منسوخة بها، وروي ذلك عن أبي زيد وقال جماعة: لا ناسخة ولا منسوخة، والحكم الذي فيها هو الأخذ بغير طيب نفس، واستدل بها كما قال ابن الفرس قوم على جواز المغالاة في المهور. وأخرج أبو يعلى عن مسروق أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه نهى أن يزاد في الصداق على أربعمائة درهم فاعترضته امرأة من قريش فقالت: أما سمعت ما أنزل الله تعالى: {وآتيتم إحداهن قنطارًا}؟ [النساء: 20] فقال: اللهم غفرًا كل الناس أفقه من عمر ثم رجع فركب المنبر، فقال: إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب، وطعن الشيعة بهذا الخبر على عمر رضي الله تعالى عنه لجهله بهذه المسألة وإلزام امرأة له وقالوا: إن الجهل مناف للإمامة، وأجيب بأن الآية ليست نصًا في جواز إيتاء القنطار فإنها على حدّ قولك: إن جاءك زيد وقد قتل أخاك فاعف عنه، وهو لا يدل على جواز قتل الأخ سلمنا أنها تدل على جواز إيتائه إلا أنا لا نسلم جواز إيتائه مهرًا بل يحتمل أن يكون المراد بذلك إعطاء الحلي وغيره لا بطريق المهر بل بطريق الهبة، والزوج لا يصح له الرجوع عن هبته لزوجته خصوصًا إذا أوحشها بالفراق، وقوله تعالى: {وَقَدْ أفضى} لا يعين كون المؤتى مهرًا سلمنا كونه مهرًا لكن لا نسلم كون عدم المغالاة أفضل منه.
فقد روى ابن حبان في صحيحه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من خير النساء أيسرهن صداقًا» وعن عائشة رضي الله تعالى عنها عنه صلى الله عليه وسلم «يمن المرأة تسهيل أمرها في صداقها» وأخرج أحمد والبيهقي مرفوعًا «أعظم النساء بركة أيسرهن صداقًا»، فنهى أمير المؤمنين عن التغالي يحتمل أنه كان للتيسير وميلًا لما هو الأفضل ورغبة فيما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قولًا وفعلًا، وعدوله عن ذلك وعدم رده على القرشية كان من باب الترغيب في تتبع معاني القرآن واستنباط الدقائق منه، وفي إظهار الكبير العالم المغلوبية للصغير الجاهل تنشيط للصغير وإدخال للسرور عليه وحث له ولأمثاله على الاشتغال بالعلم وتحصيل ما يغلب به، فقوله رضي الله تعالى عنه: اللهم غفرًا كل الناس أفقه من عمر كان من باب هضم النفس والتواضع وحسن الخلق وقد دعاه إليه ما دعاه، ومع هذا لم يأمرهم بالمغالاة بل قصارى أمره أنه رفع النهي عنهم وتركهم واختيارهم بين فاضل ومفضول ولا إثم عليهم في ارتكاب أي الأمرين شاءوا، سلمنا أن هذه المسألة قد غابت عن أفق ذهنه الشريف لكن لا نسلم أن ذلك جهل يضر نصب الإمامة فقد وقع لأمير المؤمنين عليّ كرم الله تعالى وجهه مثل ذلك وهو إمام الفريقين، فقد أخرج ابن جرير. وابن عبد البر عن محمد بن كعب قال: سأل رجل عليًا كرم الله تعالى وجهه عن مسألة فقال فيها، فقال الرجل: ليس هكذا ولكن كذا وكذا، فقال الأمير: أصبت وأخطأنا {وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]، وقد وقع لداود عليه السلام ما قص الله تعالى لنا في كتابه من قوله سبحانه: {وَدَاوُودَ وسليمان إِذْ يَحْكُمَانِ فِى الحرث} إلى أن قال عز من قائل: {ففهمناها سليمان} [الأنبياء: 78، 79] فحيث لم ينقص ذلك من منصب النبوة والخلافة المشار إليها بقوله تعالى: {ياداوود إِنَّا جعلناك خَلِيفَةً فِى الارض} [ص: 26] لا ينقص من منصب الإمامة كما لا يخفى، فمن أنصف جعل هذه الواقعة من فضائل عمر رضي الله تعالى عنه لا من مطاعنه، ولكن لا علاج لداء البغض والعناد {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الرعد: 33].

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10